الأربعاء، 22 سبتمبر 2010

الرزق شريان الحياة


" الرزق شريان الحياة "
حسين محمد أبو بكر
خريج جامعة القاهرة بمصر، عام 1983م

إن من أكثر المخلوقات تعلقا باسم من أسماء الله الحسنى هو " الرزاق " فبدونه يموت الخلق ويفنى وبوجوده يعيش ويحي . وقد وهب الله الرزق على كل مخلوق حي بقدر معلوم إنسانا كان أو جانا , حيوانا كان أو نباتا , ثابتا في مكانه كان أو متنقلا , وقسم الرزق بين عباده ليس في الحياة الدنيا فحسب بل في الدار الآخرة " نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا " وفي آية أخرى " ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا" . فالرزق في الحياة الدنيا مقسوم والأجل فيها محتوم ، فلا يموت المرء حتى استوفى رزقه وأجله :
          فكم من صحيح مات بغير علة  *  وكم من سقيم عاش حينا من الدهر
نعم إن كثيرا من الأصحاء والأغنياء ماتوا لما انقضى أجلهم وانقطع رزقهم فلا تأخذ نفس نفسا عمره يوما واحدا ولا أحد أحدا من رزقه شيئا ،  فقد مات الصحيح فجأة بغير علة والغني بغتة بغير سبب فلو رغب النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعيش عمر الدنيا لكونه خاتم النبيين والمرسلين وأمته آخر الأمم ليرى ما فعلوا أمته جيلا بعد جيل وعاما بعد عام من اختلاف بعضهم بعضا في تفرقهم بين الفئات والأحزاب والشيع وتقاتلهم لأسباب من الفتن وغيرها إلى يوم القيامة لما كان ذلك عند الله مستحيلا حيث جاء في الأثر لما احتضر النبي صلى الله عليه وسلم جاءه الملك عزرائيل وسلم عليه فقال له النبي "أجئت زائرا يا عزرائيل أم قابضا" فقال "إن الله تبارك وتعالى يقرئ عليك السلام ويهب لك خيارا بما تشاء حياة أو مماتا"  فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " فإلى الرفيق الأعلى" عند ذلك نفد رزق النبي صلى الله عليه وسلم في آخر مرضه وقبضت روحه الطاهرة واستسلمت لتلقى ربها في المقام الجلي الأعلى .      
ولو كان هناك غني عمر لكثرة ماله وسعة ملكه لعمر النبي الملك  سليمان عليه السلام لكنه لما انقطع رزقه خرّ ومات , هنا ندرك أن الرزق الحقيقي للحياة هو ما دخل في الجوف وهضم فيه  وليس في الأموال والثراء والملك , فلو عاش الصحيح السليم بغير مرض أصابه  لعاش فرعون اللعين قيل أنه لا يمسه مرض ولا علة طول حياته - الله أعلم - لكن الله يقضي أمره كان مفعولا  بأن يموت غريقا مهينا أسلم الله بدنه شاهدا في متحف القاهرة بميدان التحرير لأنه كان ملكا من ملوك مصر القدماء حيث أخبرنا به القرآن الكريم على لسان  فرعون متسائلا لقومه " أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجرى من تحتي أفلا تبصرون؟ " لقد بقي فرعون مشهودا جسدا وصدق الحق تبارك وتعالى   "فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية " . 
وقال بعض الحكماء لن يموت المرء حتى يأخذ رزقه كاملا غير منقوص ولو كان ذلك على جبين الأسد ، فهل يستطيع أحد أن يقترب من الأسد الحي فهذا تشبيه جميل من أن الرزق سيأخذه صاحبه لا محالة حيثما كان ، ولو كانت لقمة العيش من الطعام ليس برزقه داخل فمه فلن يستطيع ابتلاعها وإدخالها في جوفه مطابقة تماما لما قاله الشاعر في وصف المنية بعد انقطاع رزق مقسوم ومجيء أجل محتوم :
وإذا المنية أنشبت أظفارها  *  ألفيت كل تميمة لا تنــفع
فقد شبه الشاعر الموت استعارة تصريحية  لاختفاء وجه الشبه - في علم البلاغة -  بالأسد الهائج عندما أبرز مخالبه وأظهر أنيابه ، وأخرج صوت أزيره المرعب ليف ترس الإنسان أو غيره فلا تنفعه تميمة علقت على عنقه ولا رقية  قرأت عليه ولا دواء يشرب به ولا طبيبا يداويه  لينجو من الموت المحقق ، وإذا بقي له رزق من حبة رز أو قطرة ماء من  فلن يخرج أنفاسه الأخيرة حتى ولو مزق جسده وهمش حتى ينفد .
السعي في الرزق
لقد شاء الله أن يكون الرزق محصولا من السعي والجهد ، عندما جاء المخاض على مريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها ونفخت فيه روح من ربها أمر الله أن تهز بجزع النخلة وهي في حالة ضعف بدني شديد واضطراب نفساني عظيم لا مثيل له من مشهد الناس فلا حول لها ولا قوة وستكون هي أما لولدها بغير زوج قامت بهز جزع النخلة فتساقط عليها الرزق الحلال من رطب جني " وهزي إليك بجزع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا " .
منطقيا ، كيف تستطيع هذه المرأة الضعيفة المسكينة أن تهز جزع النخلة القائمة على أصولها ثابتة قوية وهي في مقتبل من الولادة  ألما ومخاضا ؟ والجواب أن الذي أمرها هو ربها الرزاق ورب النخلة ولو أراد الله أن يسقط عليها الرطب من غير هز ولا رج  لوقع  عليها بيسر وسهولة " إنما أمره  إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون" لكن هنا درس الهي مفيد من أن الرزق في الدنيا لم يأت إلا بالسعي والجهد بخلاف الرزق في الجنة يوم القيامة فلا سعي فيها ولا جهد فواكهها قريبة متناولة لأهلها " قطوفها دانية " .        
 وفي السيدة هاجر القبطية أم النبي إسماعيل عليه السلام وامرأة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام  سعت أربعة أشواط بين الصفا والمروة بحثا عن رزق حلال لها ولولدها فتفجر خلالها ماء زمزم بإذن الله لتروي وتسقى وليدها إسماعيل عند بيت الله المحرم .
لكن السعي والتوكل في طلب الرزق مطلوب ، وجاء في الحديث " لو توكلتم حق توكلكم لرزقكم الله كما رزق الطير تغدو خماصا  وتعود بطانا " . فبعض الناس لم يتوكلوا على الله حق التوكل خاصة الكفار منهم وإنما اهتموا بالسعي في جمع الأموال جمعا أما المسلمون فكثير ما نسوا التوكل أو تناسوا وبعضهم اهتموا بالتوكل والدعاء فقط  دون السعي في طلب الرزق . قيل إن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه  رآى شابا في المسجد من غير وقت الصلاة فسأله  ما بالك في المسجد من غير وقت الصلاة ؟ فقال أدعو الله , فقال عمر " أخرج للسعي في طلب الرزق فان الله لم يمطر ذهبا "    
 فالطيور في أعشاشها والوحوش في كهوفها والحيات في حجرها والحيتان في الأعماق كلها لم تبق في مكانها وإنما طارت في الصباح بحثا عن الطعام لأفراخها وأخرى خرجت أو سبحت للصيد بحثا عن طعام لصغارها وكذا الناس أشتات في السعي فبعضهم خرجوا إلى المزارع والمدارس وغيرهم إلى المكاتب والمحلات" إن سعيكم لشتى"  فالخلق كله بفطرته يطلبون رزقا ليسد قوته وأسرته . . .الرزق شريان الحياة .  
تقسيم الرزق
وينقسم الرزق إلى ثلاثة أقسام : قسم حلال بيّن وقسم حرام بيّن وقسم فيه شبهة بين الحلال والحرام ، فالمسلم التقي يكسب رزقا حلالا طيبا من حصيلة العمل التجاري والإداري والمهني  وغيرها لأن فيه بركة له في الدنيا وسلامة له في الآخرة من سؤال أحكم الحاكمين عن مصادر رزقه  فيما اكتسبه وإلى أين أنفقه فلا يأكل أكلا ولا يلبس لباسا ولا يركب مركبا إلا إذا تأكد من صحة مصادره حلالا أم حراما لا ثالث لهما .
 وقسم من الرزق فيه حرام .  وقد حذر النبي الرؤوف محمد صلى الله عليه وسلم أمته تحذيرا شديدا لمن أكل تمرة واحدة اكتسبها من حرام فأي لحم نبت فيه حرام فالنار أولى به  فكيف إذا كان رزقه من طعام شهي أو ملبس جميل أو مركب وثير أو مسكن فخور أو مبلغ مختلس من أموال الدولة أو الأفراد أو المؤسسات أو أكل أموال اليتامى ظلما فلا شك أن مأواه جهنم و بئس المصير . . .  والعياذ بالله .
 وقسم من الرزق لم يبيّن فيه حلاله وحرامه فهو داخل في باب الشبهات كأموال مفقودة عثرت عليها في الطرقات أو كانت منسية في مكان ما لم نعرف صاحبها ، فالمسلم الورع يبتعد عن كل الشبهات لتبرئة دينه وعرضه فيخاف أن يوشك في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى .
أشتات الرزق
فلا شك من أن الرزق أساس شريان الحياة على كل مخلوق فمن الناس من اكتسب رزقه من علمه وخبرته كالعلماء والمهنيين ومنهم من اكتسب رزقه من يده كالخطاط والرسام والكتّاب والحلاق ومنهم من اكتسب رزقه من رجليه كلاعب كرة القدم ومنهم من اكتسب رزقه من صوته وتمثليه كالفنان والمطرب والممثل المسرحي بل منهم من اكتسب رزقه من التكفف على الناس وهم المتسولون من المعاقين والفقراء وأطفال الشوارع  بل أسوأ من ذلك من اكتسب رزقه  حراما بأخذ أموال الناس بالباطل واحتيالهم  بها والنصب عليها بالقوة والخدعة فهذا الأخير منهي عنه ومعاقب عليه  إلا إذا تاب وتاب الله عليه .
فالحيوان اكتسب رزقه بطريقته الخاصة التي ألهمه الله إليها وكذلك النباتات التي لم تتحرك في مكانها بحثا عن طعامها ليست كالإنسان والحيوان لكن الله جلت قدرته وعظم شأنه فالرزق لهذه النباتات غريب فقد يكون من ضربات أشعة الشمس وقد يكون مادة مغذية في باطن الأرض وسمادها فتتغذي بها التي تنبت فيها تلك النباتات وقد يكون الرزق من الماء الذي يرش عليها المزارعون أو من الأمطار التي تنزل عليها وأغرب من ذلك كله بعض النباتات تتزوج وتتغذي بهبة الرياح  فسبحان الله في خلقه شئون .
فالرزق ضرورة من ضرورات الحياة فكل مخلوق حي يسير في البر أو يسبح في البحر أو يطير في جو السماء فمتى انقطع شريانه مات وانقضي فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وحياة كل شيء ومصير كل شيء فهو يطعم ولا يطعم وهو الرزاق الوهاب ذو القوة المتين .     

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق